فصل: مسألة المكره على اليمين:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: البيان والتحصيل والشرح والتوجيه والتعليل لمسائل المستخرجة



.مسألة المكره على اليمين:

قال عيسى: قال ابن القاسم في يمين المستكره: إذا كان إن لم يحلف فعل به شيء يخافه.
قال: إن كان عنده اليقين الذي لا يشك فيه من عذاب أو سجن أو قتل إن لم يحلف ضربه وعذبه رأيت ذلك مخرجا له إن شاء الله.
قال محمد بن رشد: اتفق مالك وأصحابه فيما علمت أن المكره على اليمين لا يلزمه اليمين إذا كان إكراهه بشي يلحقه في بدنه من قتل أو ضرب أو سجن أو تعذيب إذا كانت يمينه فيما كان لله فيه معصية أو فيما ليس له فيه طاعة ولا معصية، وسواء هدد فقيل له إن لم يحلف فعل بك كذا وكذا، أو استحلف ولم يهدد فحلف فرقا من ذلك ما لم يحلف هو متطوعا باليمين قبل أن يستحلف.
واختلف إذا أكره على اليمين بشيء من ذلك فيما لله فيه طاعة مثل أن يأخذ الوالي الجائر الشارب أو السارق أو الزاني فيكرهه على أن يحلف ألا يشرب ولا يزني ولا يسرق أو يكره الأب ابنه على نحو ذلك فيما يريد تأديبه به، فقال ابن الماجشون وأصبغ: لا يلزمه اليمين، وقال مطرف: تلزمه اليمين وهو اختيار ابن حبيب، والأصل في ذلك قول الله عز وجل: {إِلا مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالإِيمَانِ} [النحل: 106].
واختلف هل يكون الإكراه على الأيمان بالأموال إكراها أم لا على أربعة أقوال: أحدها: أن ذلك ليس بإكراه، والثاني: أنه إكراه، وهو قول ابن الماجشون، وقاله أصبغ، إلا أنه استحب إن كان يسيرا ألا يحلف، والثالث: أن ذلك ليس بإكراه إلا أن يجتاح جميع ماله، والرابع: الفرق بين أن يأمن في جسده العقوبة إن لم يحلف مثل أن يقال له إن لم تحلف على هذا الشيء أنه ليس متاعك أخذناه، وبين ألا يأمن العقوبة في جسده مثل أن يهدده اللصوص بالضرب أو القتل على أن يطلعهم على ماله ليأخذوه، فهو إن لم يحلف ضربوه أو قتلوه، وإن أطلعهم على ماله ذهبوا فأخذوه وما أشبه ذلك، وهو قول مطرف.
وأما إذا دفع الرجل بيمينه عن غيره من يريد دمه أو ماله أو عقوبته، فلم أجد في ذلك شيئا من قول قائل، ولابد من تفصيل على مذهب مالك.
فإن كان إن لم يحلف وصل إلى قتل الرجل أو أخذ ماله ولم يلحقه هو أذى في نفسه وماله، وإن حلف تخلص ذلك منهم بيمينه، مثل أن يكون مستخفيا عنده في داره أو يكون ماله عنده، فيقال له: إن لم تحلف لنا بالطلاق أنه ليس في دارك أو أن ماله ليس عندك دخلنا فقتلناه إن وجدناه فيها أو أخذنا ماله إن وجدناه عندك، فهذا إن حلف لزمه الطلاق، وآخر في الرواة عن الرجل أو عن ماله وإن لم يحلف لم يكن عليه حرج.
وإن لم يكن له عنده مال ولا كان مستخفيا في داره إلا أنه يعلم مكانه ومكان ماله، فقيل له: إن لم تحلف أنك لا تعلم مكانه ولا مكان ماله فعلنا بك كذا وكذا من ضرب أو قتل أو سجن أو خشي ذلك على نفسه إن لم يحلف جاز له أن يحلف أنه ما يعلم موضعه إن أرادوا قتله، ولم تلزمه اليمين باتفاق لأنه في حكم المكره عليه إذ لا خروج له عنها إلا بإباحة نفسه أو بإباحة دم غيره، وذلك ما لا يحل له ولا يجوز.
وإما إن أرادوا أخذ ماله ولم يريدوا قتله فيجري الأمر في يمينه على أنه ما يعلم موضع ماله على الاختلاف المتقدم في الإكراه على الأيمان بالأموال؛ لأن إخباره بموضع مال الرجل إن لم يحلف كإخباره بموضع ماله للصوص إذا أجبروه على أن يحلف لهم، على أنه ليس له مال أو يخبرهم بموضعه ليأخذوه ضامن لمال الرجل إن أعلمهم بموضعه ولم يحلف.
وأما الإكراه على الأفعال فاختلف فيها في المذهب على قولين: أحدهما: أن الإكراه يكون في ذلك إكراها، وهو قول سحنون، ودليل ما في كتاب النكاح الثالث من المدونة، والثاني: أن الإكراه لا يكون في ذلك إكراها ينتفع المكره به، وإلى هذا ذهب ابن حبيب، وذلك في مثل شرب الخمر، وأكل لحم الخنزير، والسجود لغير الله، والزنا بالمرأة المختارة لذلك أو المكرهة له على أن يزني بها ولا زوج لها وما أشبه ذلك مما لا يتعلق به حق لمخلوق، وأما ما يتعلق به حق لمخلوق كالقتل والغصب وشبه ذلك فلا اختلاف في أن الإكراه غير نافع في ذلك، وبالله التوفيق.

.مسألة مات عن امرأته فجاء شهود عدول فشهدوا أنه قد طلقها:

وقال: عن مالك في رجل مات عن امرأته فجاء شهود عدول لا يتهمون كانوا غيبا فشهدوا أنه قد طلقها منذ سنين وكانوا غيبا: أنها ترثه، ولو ماتت هي لم يرثها.
قيل له: فما الحجة أنها ترثه؟ قال: أرأيت لو كان قائما فشهدوا عليه أترجمه؟ قلت: لا، قال: أفما يدرينا ما كان يدرأ به عن نفسه، قال ابن القاسم: وهو رأيي وتعتد أربعة أشهر وعشرا.
قال محمد بن رشد: هذه مسألة قد مضى القول فيها مستوفى في رسم طلق من سماع ابن القاسم من كتاب طلاق السنة، فلا معنى لإعادته، وبالله التوفيق.

.مسألة حلف ليقضين فلانا حقه غدوة أو قال بكرة أو قال غدا عشية بطلاق امرأته:

وعن رجل حلف ليقضين فلانا حقه غدوة، أو قال بكرة أو قال غدا عشية بطلاق امرأته:
قال: أما غدوة فإني أراه ما بينه وبين انتصاف النهار؛ لأن ذلك عند الناس مما يسمونه غدوة، وأما بكرة فإلى أن ترتفع الضحى إلا على ما يسمع أنه يقال جئناه بكرة وهو يكون قبل نصف النهار، وأما العشي فإني أراه من وقت الظهر إلى المغرب وليس وقت الظهر الأول، ولكن من وسط الوقت، وذلك أن مالكا حدثني عن بعض من مضى، فقال: ما أدركت الناس يصلون الظهر إلا بالعشي، ولا شك أنهم لم يكونوا يؤخرون إلى آخر الوقت.
قال محمد بن رشد: قوله في أول المسألة وعن رجل، عطفا على المسألة التي فوقها لمالك، يدل على أن المسألة له، وله في أول الصلاة الأول من المدونة في غدوة مثل قوله هاهنا: إنه ما دام الفيء في نقصان فهو غدوة بعد، وتفرقته بين غدوة وبكرة بأن لا يكون بكرة إلا ارتفاع الضحى إلا على، صحيح، ومن الدليل على صحة ذلك- سوى ما ذكره في الرواية- من الناس لا يوقعون بكرة إلا على ما قبل نصف النهار قول الله تبارك وتعالى: {وَلَقَدْ صَبَّحَهُمْ بُكْرَةً عَذَابٌ مُسْتَقِرٌّ} [القمر: 38]، وإنما جاءهم العذاب بعد ارتفاع الشمس بدليل قَوْله تَعَالَى: {فَأَخَذَتْهُمُ الصَّيْحَةُ مُشْرِقِينَ} [الحجر: 73]، وإشراق الشمس ضياؤها، يقال: شرقت الشمس، إذا طلعت، وأشرقت إذا أضاءت، ولو حلف ليقضين حقه صباحا لكان له سعة إلى ارتفاع الضحى إلا على قوله في بكرة؛ لأنهما سواء؛ لقول الله عز وجل: {وَلَقَدْ صَبَّحَهُمْ بُكْرَةً عَذَابٌ مُسْتَقِرٌّ} [القمر: 38]، وفي كتاب ابن المواز في الحالف ليقضين حقه غدوة أو بكرة أنه يبرأ ما بينه وبين زوال الشمس، والأول أصح لما ذكرناه مما دل عليه كتاب الله، وقوله في العشي إنه من وقت الظهر إلى المغرب، يريد: إلى قرب المغرب وهو وقت صلاة العصر، بدليل قَوْله تَعَالَى: {وَلَهُ الْحَمْدُ فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَعَشِيًّا وَحِينَ تُظْهِرُونَ} [الروم: 18]، فـ عشيا العصر، وحين تظهرون الظهر، وكذلك المساء فيمن حلف ليقضين الحق فيه، بدليل قول الله عز وجل: {فَسُبْحَانَ اللَّهِ حِينَ تُمْسُونَ وَحِينَ تُصْبِحُونَ} [الروم: 17]، وانتهى قول مالك إلى قوله: فإني أراه من وقت الظهر إلى المغرب، وقوله: وليس وقت الظهر الأول إلى آخر المسألة تفسير لابن القاسم، بدليل قوله: وذلك أن مالكا حدثني، وسيأتي في سماع سحنون إذا حلف ليقضين حقه صلاة الظهر، وبالله التوفيق.

.مسألة حلف لرجل امرأته طالق البتة إن لم يقضك حقك الهلال:

وعن رجل حلف لرجل امرأته طالق البتة إن لم يقضك حقك الهلال.
قال: لا أدري ما الهلال؟ إن كان إنما أراد الإهلال فله يوم وليلة، وإن كان إنما أراد إلى الإهلال فقد حنث إن لم يعطه قبل أن يهل.
قال محمد بن رشد: هذا بين على ما قال، إن الأمر يجب أن يحمل في ذلك على ما زعم أنه نواه، وهو مصدق في ذلك دون يمين وإن كانت على يمينه بينة؛ لأنه إن قال: أردت الإهلال فهو الظاهر من قوله الذي يحمل عليه إذا لم تكن نية، وإن قال: أردت إلى الهلال فهو مقر على نفسه يحنث بالغروب فلا وجه لتحليفه، وقد مضت هذه المسألة ونظائرها في رسم البراءة من سماع عيسى من كتاب النذور، فلا معنى لإعادته، وبالله التوفيق.

.مسألة قال لامرأته أنت طالق البتة إن دخلت بيت أبيك حتى يقدم أخوك:

وعن رجل قال لامرأته أنت طالق البتة إن دخلت بيت أبيك حتى يقدم أخوك من سفره فمات أخوها قبل أن يقدم.
قال: إن كانت له نية في ذلك أن يكون أراد في ذلك مثل ما يقدم إليه الحاج وشبه ذلك ولم يرد في ذلك الموت، وإنما أراد الأجل، فإذا أقامت إلى مثل ذلك ثم دخلت فلا شيء عليه، وإن لم تكن له نية فهو حانث إن دخلت.
قال محمد بن رشد: هذا بيّن أنه إن نوى بيمينه ألا تدخل بيت أبيها إلا مقدار ما يقدم إليه الحاج فله نيته فتلزمه اليمين إلى ذلك الأجل، مات قبله أو بعده أو لم يمت، ولا خلاف في ذلك، إلا أنه يحلف على ذلك إن لم يكن مستفتيا، وكذلك إن لم ينو ذلك إلا أن ليمينه بساطا يدل عليه، على المشهور في المذهب من مراعاة البساط في الأيمان ولو كان إنما أراد استرضاء أخيها الغائب بذلك لسقطت عنه اليمين بموته مات قبل قدوم الحاج أو بعده؛ إذ قد علم أنه لا يسترضى بعد موته، وإنما الكلام عند عدم النية والبساط، فقال هاهنا: إن اليمين باقية عليه أبدا إن مات أخوها قبل أن يقدم ويكون حانثا متى ما دخلت، ومثله في سماع أصبغ من كتاب العتق في التي تحلف ألا تخرج إلى موضع سمته حتى يقدم زوجها من الحج؛ لأنه حمل اليمين على مقتضى اللفظ ولم يراع المعنى والمقصد، ويأتي على مراعاة ذلك ألا يحنث إذا مات إن دخلت بعد أن يمضي من المدة ما كان يمكنه القدوم فيه لو كان حيا، إذ قد علم من قصد الحالف أنه لم يرد بقوله: حتى يقدم إلا مع استمرار حياته، إذ لا يمكن أن يقدم الميت، ولا أن يريد هو ذلك بيمينه، وعلى هذا يأتي قول مالك في أول مسألة من رسم الطلاق الأول من سماع أشهب، وقد مضى القول عليها هناك، وعلى هذا المعنى اختلفوا في الرجل يحلف بطلاق امرأته ألا يكلم إنسانا حتى يرى الهلال فعمي وذهب بصره قبل الهلال، فقيل: إنه لا يكلمه أبدا، وهو قول مالك في المبسوطة، وقيل: إنه يكلمه إذا رئي الهلال ولا شيء عليه؛ لأنه أراد ألا يكلمه حتى يَرى الهلال من حيث يُرى، وهو قول ابن الماجشون، وبالله التوفيق.

.مسألة قال امرأتك طالق لتدفعن إلي حقي غدا فيقول نعم فيحنث:

وعن الرجل يكون له على الرجل الحق فيقول: امرأتك طالق أو عليك الطلاق لتدفعن إلي حقي غدا، فيقول: نعم، فيحنث، فيقول: أردت واحدة، ويقول صاحب الحق: أردت ثلاثا.
قال: القول قول صاحب الحق، وفي سماع عبد المالك بن الحسن أن القول قول الغريم.
قال محمد بن رشد: هذان القولان على اختلافهم في اليمين هل هي على نية الحالف أو على نية المحلوف له، وقد مضى القول على ذلك في رسم البز من سماع ابن القاسم وغيره، فلا معنى لإعادته، وبالله التوفيق.

.مسألة الحالف بالطلاق أو بالمشي أو بالصدقة وما أشبه ذلك أن يفعل فعلا:

وقال في رجل يحلف بطلاق امرأته واحدة ثم بالمشي إلى بيت الله وبالصدقة ليتزوجن على امرأته، فأراد أن يطلق امرأته واحدة ولا يطأها ويكون في سعة من المشي والصدقة حتى يتزوج فيقع ذلك عنه.
قال: ذلك له.
قال محمد بن رشد: وهذا كما قال؛ لأن الحالف بالطلاق أو بالمشي أو بالصدقة وما أشبه ذلك، أن يفعل فعلا، لا يقع عليه الحنث إلا بعد الموت؛ لأنه في فسحة في فعل ما حلف ليفعلنه ما لم يمت، إلا أنه على حنث، فلا يجوز له الوطء إن كان حلف بالطلاق وله أن يُحنِّث نفسه فيما شاء من ذلك، فإن أراد إذا حلف بجميع ذلك أن يحنث نفسه في الطلاق وحده فيطلق امرأته واحدة كما حلف ليرتجع ويطأ كان ذلك له، فإن بر بالتزويج قبل الموت سقط عنه المشي والصدقة، وإن لم يبر حتى مات كانت الصدقة في ثلث ماله؛ لأن الحنث إنما وجب عليه بعد الموت، ولم يكن على ورثته في المشي شيء إلا أن يوصي بذلك فينفذ عنه المشي من ثلث ماله، وقيل: إنه يُهدى عنه هديان، ولا يُمشى عنه حسب ما مضى من القول في ذلك في رسم حلف الثاني من سماع ابن القاسم من كتاب الحج، هذا هو المشهور.
وقد قيل في الحالف ليفعلن فعلا إنه على التعجيل إلا أن يريد التأخير ويحنث إن أخر فعل ذلك الفعل الذي حلف ليفعلنه، وهو قول ابن كنانة ورواية عيسى عن ابن القاسم عن مالك في المدونة في الحالف لينتقلن أنه إن لم ينتقل تلك الساعة حنث، وهذا القول في الحالف على غيره ليفعلن أكثر، وهو لابن القاسم في سماع أبي زيد من كتاب العتق.

.مسألة حلف لرجل فقال امرأته طالق إن خرجت من الفسطاط:

وقال في رجل حلف لرجل فقال: امرأته طالق إن خرجت من الفسطاط وأنت تسلني شيئا فأحاله على رجل فرضي بالحوالة، قال: لا بأس عليه ولا شيء عليه إن كان من أصل دين له على من أحاله، وإن لم يكن من أصل دين فهو حانث، وأما الضمان فلا يخرجه عن يمينه، ولو حلف ليقضينه حقه لم تنفعه الحوالة أيضا وإن كان من أصل دين.
قال محمد بن رشد: هذا كما قال؛ لأن الحوالة من أصل دين يبريه من الدين، وتوجب ألا رجوع عليه لغريمه وإن مات المحال عليه أو فلِّس إذا لم يقره من فلس عليه منه، فوجب أن يبر الحالف بها في يمينه التي حلف بها؛ ولأنها إذا لم تكن على أصل دين لا يبر بها؛ إذ للمحتال أن يرجع عليه إن مات المحال عليه أو فلس، وقد قيل: إنها كالضمان في أنه المبدأ بالاتباع، فوجب ألا يبر الحالف بذلك في يمينه التي حلف بها. وأما إذا حلف ليقضينه حقه فلا يبرأ بالحوالة وإن كانت من أصل دين، إذ لم يقضه شيئا قبضه، وإنما تحول من ذمته إلى ذمة غيره إرادة معروف صنعه، ولا يدخل في هذا الاختلاف الذي ذكرنا في رسم نذر سنة من سماع ابن القاسم في الرهن؛ لأن الرهن شيء قد قبضه صاحب الحق وهو أحق به من الغرماء، والحوالة لم يقبض صاحب الحق بها شيئا ولا هو أحق بذمة المحتال عليه من الغرماء إن فلس، فلم تقو قوة الرهن، ولو حلف ألا يقضينه فأحاله حنث، قاله في رسم بع هذا، وهو صحيح؛ لأن الحنث يقع بأقل الوجوه، وبالله التوفيق.

.مسألة الحالف إنما يحنث بالمعنى الذي حلف عليه لا بمجرد الألفاظ:

ومن كتاب أوله استأذن سيده في تدبير جاريته:
وسئل: عن رجل قال له: إن رمك فلان ختنك أصابها العسكر فاخْرج في طلبها، فخرج في طلبها فأدركها، فقال للذين هي معهم: إن هذه الرمك لختني بكير النفزي، فقيل له: كذبت ليست لختنك، وإنما هي للجند، ولكن احلف إنها للبربر وليست للجند، فقال: امرأته طالق إن كانت ليست لبكير النفزي، وإنما كان أصل استحلافهم إياه أنها للبربر وليست للجند، ولم يسألوه إن كانت لنفزي أو لغير نفزي، إلا أنه حلف أنها لبكير النفزي، فسأل عن بكير فإذا هو من مصمودة، وليس من نفزة، وحلف حين حلف وهو يظن أنه من نفزة والرمك له.
فقال: إنما استحلافهم إياه أنها ليست للجند ولم يستحلفوه أنها للنفزي، فليس عليه في يمينه شيء، وذلك أني سمعت مالكا وسئل: عن رجل بعث إلى عبد له في خرج كان عنده، فقال للرسول: أخذه أخوه، فأتى سيده مغضبا، فقال: أخفيت عني الخرج، فقال العبد: امرأته طالق إن كان لم يأتني أخوك فأخذه مني، ثم فكر فإذا أخوه لم يأته، وإنما جاء رسول، فقال: ليس عليه شيء؛ لأنه لم يحلف إلا على أنه لم يخفه عنه، فمسألتك مثلها.
قال محمد بن رشد: هذا كما قال؛ لأن الحالف إنما يحنث بالمعنى الذي حلف عليه، لا بمجرد الألفاظ إذا خالفت المعاني؛ لأن الحكم إنما هو للمقصود بالقلب لا لمجرد اللفظ المنطوق به، ألا ترى أن المعنى الواحد المقصود إليه بالقلب يعبر عنه بألفاظ كثيرة مختلفة، ولغات شتى مفترقة، فلا يتغير معناه عند السامع له بهذه الألفاظ المختلفة واللغات المفترقة باختلاف العبارات عنه، وقد يفهم من اللفظ خلاف موضوعه في اللغة، فيكون الحكم للمفهوم من اللفظ، لا لموضوع اللفظ وحقيقته في اللغة، وهذا كثير موجود في القرآن والسنن والآثار، قال الله تعالى: {فَاعْبُدُوا مَا شِئْتُمْ مِنْ دُونِهِ} [الزمر: 15]. فهذا أمرٌ المفهوم منه النهي، وقال عز وجل: {إِنَّكَ لأَنْتَ الْحَلِيمُ الرَّشِيدُ} [هود: 87]، فهذا مدح، والمراد به السبّ والاستهزاء، وقال عز وجل: {إِنَّ الصَّلاةَ تَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ} [العنكبوت: 45] وقد علم أن الصلاة لا تأمر ولا تنهى، وكان الحكم للمعنى، وقال رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «أما أبو جهم فلا يضع عصاه عن عاتقه». وهذا كذب في ظاهره إذ ليس أبدا بعصاه على عاتقه، وليس بكذب ولكنه إخبار عن معنى عُلم المقصود به، فكان الحكم له، وهذا كثير يعز إحصاؤه، ولا يمكن استقصاؤه، وقد مضت مسألة الخرج في رسم أخذ يشرب خمرا من سماع ابن القاسم والقول فيها بما فيه كفاية فلا معنى لإعادته وبالله التوفيق.

.مسألة قال لامرأته إن خرجت إلى بيت فلان إلا بإذني فأنت طالق:

وعن رجل قال لامرأته إن خرجت إلى بيت فلان إلا بإذني فأنت طالق، فخرجت فلما علم قال لها: إني قد حلفت ألا تخرجي إلا بإذني فقد خرجت فاعتدي، ثم ذكر أنه قد كان أذن لها.
ففكر فقال: أرى قوله لها اعتدي طلاقا، فإن تدارك الرجعة قبل أن تحيض ثلاث حيض كان أملك بها، وإن حاضت ثلاث حيض قبل أن يراجعها كانت أملك لنفسها، قلت: إنما قال لها اعتدي من الطلاق الذي ظن أنه حنث فيه ولم يحنث، قال: أترى أن لو أتاني وقد حاضت ثلاث حيض وبانت منه وادعى نية أكنت أنويه فيها؟ لا أراه إلا وقد بانت منه إن لم يرتجعها قبل أن تنقضي عدتها، قال ابن القاسم: وإنما هي عندي بمنزلة من قال: قد طلقتك فاعتدي، وقال ابن وهب مثله.
قال محمد بن رشد: هذه مسألة فيها نظر، والذي يوجبه فيها القياس والنظر ألا يلزمه فيما بينه وبين الله في قوله لها فاعتدي طلاق إذا تحقق أنه لم يلزمه فيها طلاق وتؤمر له بالعدة، ويبين هذا ما صرفنا إليه وجه الاختلاف الواقع في مسألة رسم النكاح من سماع أصبغ من كتاب طلاق السنة في الذي أفتي في امرأته في يمين نزلت به أنها قد بانت منه، فقال لها وللناس: قد بانت مني، ثم علم أنه لا شيء عليه، فالمعنى في هذه المسألة عندي أنه إنما أوجب عليه الطلاق فيها بقوله لها فاعتدي من أجل أنه حضرته البينة بقوله لها: إني قد حلفت ألا تخرجي إلا بإذني فقد خرجت فاعتدي، ولم يصدق فيما زعم من أنه يذكر أنه قد كان أذن لها، فألزم الطلاق بما شهد به عليه من قوله لها فاعتدي؛ لأن اعتدي من ألفاظ الطلاق، فمن قال لامرأته: اعتدي ينوى ما أراد من عدد الطلاق بما شهد به عليه من قوله لها اعتدي؛ لأن اعتدي من ألفاظ الطلاق، فإن لم تكن له نية فهي واحدة، قال ذلك في المدونة، ولم يبين كم يلزم من عدد الطلاق، إلا أنه قد قال في آخر المسألة: إن ذلك عنده بمنزلة من قال: قد طلقتك فاعتدي، ومن قال في الذي يقول لامرأته: قد طلقتك فاعتدي أو قد طلقتك اعتدي أنهما اثنتان إلا أن يريد بهما واحدة، يقول: إنما أردت أن أعلمها بالعدة فتكون واحدة، فيلزم في هذه المسألة على قياس قوله أن تكون واحدة بعد أن يحلف أنه إنما قال لها: فاعتدي أمرا لها بالعدة من الطلاق الذي ظن أنه قد كان لزمه وبالله التوفيق.

.مسألة حلف بالطلاق ألا يكسوه فاشترى له سلعة وقال بعها ولك فضلها:

وسئل عن رجل عاتب أخا له كان معه في صنعة يتقلبان فيها، فعاتبه في البطالة وقال: لم تتبطل ولا تتجر ولا تكسب شيئا؟ فحلف بالطلاق ألا يكسوه فاشترى سلعة بخمسة دنانير، وقال: هاك هذه السلعة بعها ولك فضلها.
قال: أراه حانثا لأن هذا ليس من وجه التجارة ولا البيع، وإنما هذه عطية منه، قال له: خذ فضل هذه السلعة.
قال محمد بن رشد: هذا كما قال؛ لأنه إذا أعطاه فضل السلعة ليكتسي منها فقد كساه، ومثله في المدونة في الذي يحلف ألا يكسو رجلا فأعطاه دنانير، أو حلف ألا يعطيه دنانير فكساه أنه حانث ولا ينوي في ذلك يعني مع قيام البينة بخلاف المرأة فإنه ينوي في زوجته إذا حلف ألا يعطيها دنانير فكساها، فإنه إنما حلف ألا يعطيها دنانير لئلا تفسدها أو تخدع فيها وبالله التوفيق.

.مسألة ذكر له غريمه فقال امرأته طالق إن لقيته إن فارقته حتى يحكم الله بيننا:

وقال في رجل ذكر له غريمه فقال امرأته طالق البتة إن لقيته إن فارقته حتى يحكم الله بيننا وهو خير الحاكمين، فلقيه فقضاه حقه.
قال: لا شيء عليه.
قال محمد بن رشد: وهذا كما قال؛ لأن قضاءه حقه هو حكم الله الواجب بينهما، وإن لم يقضه حقه لكان الوجه الذي يبر به ألا يفارقه حتى يرفعه إلى السلطان فيفصل بينهما بما شرعه الله من الحكم بين عباده، كان له أو عليه؛ لأن حكم الله بين عباده في الدنيا هو حكم الحاكم بينهم بما أمر الله به من القول، قال الله عز وجل: {وَإِذَا حَكَمْتُمْ بَيْنَ النَّاسِ أَنْ تَحْكُمُوا بِالْعَدْلِ} [النساء: 58] وبالله التوفيق.

.مسألة ساومه رجل بسلعة فقال امرأته طالق إن باعها منه ثم ساومه بها آخر:

وسئل عن رجل ساومه رجل بسلعة فقال: امرأته طالق إن باعها منه، ثم ساومه بها رجل آخر فقال: امرأته طالق إن باعها منه، فباعها منهما جميعا.
قال: يلزمه تطليقتان، قلت: فلو كان حلف على هذا النحو بالله أيضا أتلزمه كفارتان؟ قال: نعم، قلت له: ففي أي شيء إذا حلف مرات لم يلزمه إلا كفارة واحدة؟ قال: لو أنه أتاه رجل فساومه فقال: والله لا أبيعها، ثم أتاه آخر فقال: والله لا أبيعها، فهذا الذي لا يلزمه إذا باع إلا كفارة واحدة، ولو كان هذا في طلاق كان عليه تطليقتان إلا أن ينوي واحدة، ولو أتاه رجل فقال: امرأته طالق إن باعها، ثم أتاه آخر فقال: امرأته طالق إن باعها لزمته تطليقتاه إن باعها إلا أن يكون نوى واحدة، وسواء كان في رجل واحد أو في رجلين هما تطليقتان.
قال محمد بن رشد: هذه مسألة صحيحة كلها على معنى ما في المدونة وغيرها، لا اختلاف في شيء من وجوهها، إذا حلف الرجل ألا يبيع سلعة ثم حلف ثانية ألا يبيعها ثم باعها لزمته كفارة واحدة إن كان حلف بالله، وتطليقتان إن كان حلف بالطلاق إلا أن ينوي واحدة، وإذا حلف ألا يبيع سلعته من فلان، ثم حلف ألا يبيعها من فلان رجل آخر فباعها منهما جميعا لزمته كفارتان إن كان حلف بالله، وتطليقتان إن كان حلف بالطلاق ولم ينو إن زعم أنه أراد واحدة وينوي في الطلاق حيث يكون عليه في اليمين بالله كفارة واحدة، ولا ينوى فيه حيث تكون عليه في اليمين بالله كفارتان، فهذا قياس هذه الباب، وقوله في آخر المسألة: وسواء كان في رجل واحد أو في رجلين هما تطليقتان، معناه إذا لم تكن له نية، وأما إذا نوى واحدة فيُنَوَّى في الرجل الواحد ولا يُنَوَّى في الرجلين حسبما بيناه وبالله التوفيق.

.مسألة حلف في سلعة له ألا يبيعها فيبيعها على أنه بالخيار فيها:

وسئل عن الرجل يحلف في سلعة له ألا يبيعها فيبيعها على أنه بالخيار فيها.
قال: لا شيء عليه حتى يحب البيع.
قال محمد بن رشد: مثل هذا من سماع أصبغ في كتاب العتق، وهو صحيح لأنه استثنى الخيار لنفسه، فلا يكون بيعا حتى يمضيه، ولو حلف ألا يبيعها إلى أجل فباعها قبل الأجل على أنه بالخيار وأمضاه بعد الأجل لتخرج ذلك على قولين: أحدهما وهو المشهور أنه لا يحنث؛ لأن البيع إنما وجب يوم أمضاه، والثاني أنه يحنث لأنه أمضاه له على العقد الأول، فكأنه قد وجب له من حينئذ، وهذا القول قائم من قوله في كتاب الشفعة من المدونة في الذي يشتري شقصا من دار بخيار ثم يباع ذلك الشقص الآخر بيع بت أن الشفعة لمشتري الخيار إن اختار البيع، وكذلك الحكم في الرجل يحلف ألا يشتري السلعة فيشتريها على أنه فيها بالخيار سواء، ولو باعها الحالف ألا يبيعها على أن الخيار للمشتري، أو اشتراها الحالف ألا يشتريها على أن الخيار للبائع لوقع الحنث في ذلك على الحالف منهما، كان البائع أو المبتاع، مضى البيع أو رُد بالخيار إلا أن يكون اليمين بحُرّية العبد الذي حلف البائع ألا يبيعه أو المشتري ألا يشتريه، فيفترق في ذلك البائع من المبتاع، لحنث البائع بعقد البيع على أن الخيار للمبتاع فيرد ويعتق عليه، ولا يحنث المبتاع بعقد البيع على أن الخيار للبائع حتى يمضي له البيع، ولو حلف الرجل ليبيعن سلعة أو ليشترينها لما بر ببيعها ولا بشرائها على الخيار، كان الخيار له أو لمن باعه حتى يُمضي البيع مَن له الخيار فيه؛ لأن الحنث يقع بما لا يكون البر به؛ إذ لا يكون البر إلا بأكمل الوجوه.
وكذلك الذي يحلف ألا يبيع سلعة يحنث ببيعها وإن ردها عليه بعيب أو فساد بيع ولا يبر إذا حلف ليبيعنها إذا باعها فردت عليه بعيب أو فساد بيع؛ لأن البر لا يكون إلا بأكمل الوجوه، وهو قول ابن القاسم في الواضحة وفي رسم باع شاة من سماع عيسى من كتاب العتق، وقيل: إنه لا يحنث إن رد عليه بعيب، وإلى هذا ذهب ابن حبيب، وهذا على أن الرد بالعيب ابتداء بيع، وبالله التوفيق.